الخطوة التالية

درج أزرقٌ في شفشاون المغرب، على أطرافه وعلى الجدران نباتات صغيرة
الخطوة التالية وأهمية وضوحها ودورها في إنجاز الإنسان وإتمامه لأعماله.
الأربعاء، ٢٥ ذو القعدة ١٤٤٤ هـ

بسم الله، «سُئِلَ النبيُّ ﷺ : أيُّ الأعْمَالِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ: أدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ وقَالَ: اكْلَفُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ»1

تمهيد قصصيّ

في قريةٍ تتوسّط الجبال الشاهقة، وراءَ باب كوخٍ خشبيّ متواضع، جلس الشابّ وأمامه ورقة صغيرة كُتب فيها: خطّة السنة. أخرَج من الأدراج ورقاتٍ أخر: خِطَّة السنة كذا، وخطّة السنة… كُتِبتْ فيها خططٌ وأهداف شتّى، ثم بدأ يكتب فسألَهُ صديقَه: لمن تنسخ هذه الأوراق؟

تمهيد

الخطوة التالية: مُهمّة لمن أرادَ أن يُتمّ ما بدأ! تتبخر الأيام من مِرجل أعمارنا، ولا تحمِل معها سوى الحَيْرَة والتردد والتفنن في كيفية الاختيار، لا الاختيار نفسَه! الخطوة التالية لكل عملٍ بدأتَهُ ما لمْ تكُن: واضحة ومحددة ومناسبة، فسيصعب جِدًّا إكمال العمل، لأنّ آفةُ أي عملٍ تبدؤه غياب الخطوات التالية وصعوبتها. فأنت إذا حددت الهدف عرفت كيف تسيرُ إليه، ولكنّ ليس الهدفُ الغايةَ فقط! بل كل خطوةٍ تالية هي هدف، وأي خطوةٍ بعدَها مَفاوْزَ مُظلمة لا معالِم لها، فهي الأخيرةُ غالبًا، وإذا لم تكنِ الأخيرة فستُحدِثُ فترة، وكلما طالت المدّة قلّ الأمل في العودة، ولهذا نُحب البَدْء من جديد!

لمَ لا نُتِمّ؟

يميل الإنسان بطبعه إلى الخوفِ من المجهول والضبابيّة، فعندما تجهلُ الخطوة التالية تخافُها فتردد: أي طريقٍ تسلُك الآن؟ ستُفكر كثيرًا في خطوتك، وستجمع معلوماتٍ أكثر وأكثر لتُقرِّر القرار الصحيح! وأثناء ذلك: تومِض شرارةٌ أخرى في ناحية من نواحٍ الحياة تنشغل في ملاحقتها بسرعة! فالباحِث قد تلهيهِ فكرةٌ بحثية عن فكرة، فتسرق من وقته وجهدهِ ولكن: سرعة الإلهاء منخفضة عنده، وقد يستشيرُ ويُنصَح أو يُتمُّها غيرُه. لكنّك اليوم مُلهيْك في يدِك: ينبهك فتسارع لملاحقة سيل هادرٍ من عبثٍ وهزلٍ وجدٍ على وسائل الإلهاء الجماعيّ! ويميُّز هذا الساحر المضيء أنّك لا تدري كم مضى! والروابط التشعُّبيَّة تتشعب بك مثل تائه في الصحراء يتّبع في كل ساعةٍ نجمةً! تعودُ في لحظاتٍ صامتة وهادئة فتفكر من جديد في القرار، وألمُ هدرِ الوقت يزداد، والحسرة والندم تُبعث من جديد. فأنت إمّا أن تكون صارمًا تتخذ القرار وتنفذه، أو تتهربُ من هذه الحقيقة المرّة بأمرّ منها: العبث بالجوال هربًا، أو الانتظار أملًا في أن تُلهَم بالخطوة التالية! رويدًا رويدًا تذبل شمعةُ الحماسة التي بدأتَ بِها، وتستحيل لذة الإنجاز ندمًا على التسويف، وتجترّ خيباتِ الماضي البعيد معَك: فتغيب عن وعيِ حاضرك بآلام ماضيك، والحياة مستنقعٌ من توقّف فيهِ يغرق! وهكذا تتداعى الخطط، وينهار جدولُ اليومٍ المتكامل، فتؤجّلُه إلى حلمِ غدٍ: تتفرّغ فيهِ، ولن تستطيع.

التسلسل المؤسف

  • التردد [بداية الخطر]
  • الإلتهاء [يسرِق الوقت]
  • المبالغة في البحث عن القرار [وهمُ المثالية]
  • فقدان شُعلة الحماس الأولى ولذة الإنجاز [بداية الأفول]
  • إضافة هذه الرحلة الفاشلة إلى قائمة من الفشل -والتي بدورِها تغذي عادة عدمِ الإتمام وتطبِّع عليه- [سجلٌ من الفشل]

هذه السلسلة نجدها باختلافات يسيرة تتكرر في حياتنا، ولابد من ملاحظتها أولا، ثم قطعها حتى لا تستمر، وصناعة سلسلة بديلة.

ماذا نفعل؟

أول ما ينشأُ لدى الإنسان الفكرة، إذا لمعت الفكرة ينبغي العمل عليها أو تسجيلها، فالأفكار غالبًا لا تعود. بعد ذلك يتجه الاهتمام إلى التنفيذ، والعملُ نوعان: مؤقت ودائم. المؤقت محدد المدة لهدف محدد تنتهي به الفكرة إلى غايتها، مثل كتابة مقال طُلب من جهة معينة فينتهي التنفيذ بالمنتج وتتوقف العجلة. أما الدائم فهو إضافة نشاطٍ إلى نمط المعيشة اليومية، كالكتابة اليومية والقراءة وما شابه.

في كلا الحالين قد يقع الإنسان في هوة غياب الخطوة التالية، فقد تحدد عنوان المقال المراد كتابته وتحار في كيفية بناء الفكرة نفسها، فتتأخر باحثا عن البناء الأنسب للمقال وأنت لم تكتب منه شيئًا، بينما لو جعلت الكتابة مباشرة هي الخطوة التالي دون تفكير في كيفية البناء، وجعلت التحرير بعد الكتابة لوجدت أنك أنجزت أسرع. لكنه عادة كلما قصرت المدة وكان الانتهاء ضروريا لا يتأخر الإنسان كثيرا بل يضطر إلى التنفيذ بسرعة ولو خرج العمل ضعيفا ومتأخرا.

ربما تكون الالتزامات طويلة المدى أكثر عرضة للتسويف، فلو فكرت في تأليف كتاب على مدار سنة أو اثنتين، ستتوه سريعا بين المقدمة، الفصل الثاني، العنوان، وتفاصيل كثيرة لم تحدد البداية ولا النهاية، فلربما مضت السنة وأنت لم تختر العنوان بعد! ولأنك جعلت كتابتك للمحتوى معلَّقة بالعنوان، فلا العنوان يُحدد ولا المحتوى يكتب! مع أنك تستطيع كتابة المحتوى وتحدد العنوان لاحقا، ومثل هذا كافة التفاصيل الأخرى. ربما تكون المشكلة أتفه من ذلك: فلا تجد برنامج التحرير المناسب للكتابة، وتظل مدة تبحث وتسأل عما يستعمله الكتاب، وما هو السهل… إلخ.

الأولوية دائما للتنفيذ، هذا المقال نفسُه تأخر أشهرًا عدة، وكان أول أسباب التأجيل البحث عن البرنامج الأنسب للكتابة! تبدو المشكلة تافهة، ولكنك عندما تكون في دائرتها وتحت تأثيرها يصعب عليك اكتشاف الفخ الذي أنت فيه! وخطوات الحل ليست صعبة، بل ربما استحضرها كثيرون في أثناء قراءتهم لما سبق، لكن حضورها في ذهنك أنت في أثناء تنفيذك هو المهم.

فالخطوة التالية لا بد أن تكون: محددة الوقت والكيف والكمّ: ستكتب نصًا عن التسويف عبر برنامج كذا بطولِ كذا وكذا كل صباح. أما إذا كانت الخطوة للتالية ضبابية: سأبدأ كتابة المقال، فلا تدري ما الجزء الذي ستعمل عليه تحديدا، وعدم التحديد: أن لا تحدد وقت التنفيذ ولا الكم ولا الكيف، مثل قولك: سأكتبها عندما أتفرغ، وأنت لا تدري متى تتفرغ وأي درجة تريد؟ وعدم المناسبة: تحديد سقف عالٍ لا تستطيعه أصلا! وإن فشلت يوما في كتابة ألف كلمة فلن تعيد الكرة! بل قد تتنازل وتشعر بالخيبة، فأنت لم تحقق المطلوب من نفسك! بدلا من الألف والألفين أنت تكتب مئة ومئتين! فترى أنك لن تصل لغايتك المحددة (مثلا تأليف كتاب في سنة) فتتخلى عن ذلك كله! وستفكر في كتابة كتاب السنة القادمة لعلك تكون قادرا مجددا! على أنك لو تأملت: لن تجد نفسك قررت علاجا لهذه المعضلة! لماذا لا تستطيع كتابة ألف كلمة يوميا؟ لماذا يلزمك تأليف الكتاب في سنة واحدة؟

غياب الخطوة التالية يبدو جليا في الصباح، فراقب نفسك بعد الاستيقاظ وصلاة الفجر والأذكار، ماذا تفعل؟ هل حددت ما ستعمل عليه أم لا؟ هل رتبت أولوياتك؟ غالبا ستجد أن أيام كثيرة تضيع كاملة لأنك لم تحدد الوجهة صباحًا فقررت أن تنشغل بشيء جانبي -بوعي أو من دون وعي- حتى تجد الترتيب أو العمل المناسب، وهكذا لن تعمل أصلا بل قد يغويك الشيطان فتؤجل جدول اليوم كله إلى الغد، لبداية أفضل وأمثل! وهذا الغدُّ لن يأتي مهما انتظرته. وجود الخطوة التالية يجعل بوصلتك دقيقة وتوجهك سليما، وغيابها يجعلك تسلك دروبا متفرقة. رتِّب جدول أولوياتك في اليوم السابق، حتى إذا صحوت يكون اتجاهك واضحا، واجعل هناك خطة بديلة وعوَّد نفسك ارتجال خطط بديلة والانتقال للمهمّة الثانية، لأن عدم القدرة على الابتداء يعني تعريض نفسك لفكرة تأجيل الجدول كله لليوم التالي!

نقاطٌ أخرى مهمّة

ترصَّد للتسويف

احرص دائما على مراقبة فخاخ التسويف، الظروف التي تجعلك تلتهي بسهولة وتسوف وتؤجل، وضع لها حلولا تناسبك، والعمل الفوريّ حل ناجع كثيرا لكنه سهل ممتنع، فكثيرا ما ننخدع دون وعيٍ منا ونؤجل ونحن لا ننتبه أننا زرعنا بهذا بذرة تسويف في العمل! فالملاحظة والانتباهُ عاملان مهمان هنا.

ترصد للمثالية

المثالية تتجلى في صورٍ كثيرة، وتحتاج بدورها إلى مراقبة فعالة بل قد تتطلب إشرافا من آخرين عليك لتنبيهك عند وقوعك في الفخ، تستطيع مثلا أن تضع نظاما محددا لآلية التقرير في شؤونك المختلفة لتقيس مدى أهمية الخطوات ومدى مثاليتها وواقعيتها، فلو كان لديك مشروع معين تنجزه، يمكنك مثلا مراجعة صديق لك قبل اتخاذ أي إجراء إضافي ليناقشك وينبهك إن كان الإجراء هذا من صور المثالية ويريك الصورة النهائية المطلوبة، وبالممارسة والتكرار ستتعلَّم أين تبدأُ خطوة المثالية الأولى.

وخلاصة ما ذكرتُه:

  • خطوة تالية واضحة
  • جدولة الصباح مسبقًا
  • عدمُ تعليق بعض المهام ببعض
  • مراقبة التسويف والمثالية في طيات ما سبق

ويمكن أن يَزيد كلٌ ما يراه مناسبا لسيرِ حياته ورغباته المختلفة، فلكلٍّ منّا حياةُ يعيشها.

ختاما

لو نظرْت حولَك، لوجدتَ أنّك تتقدم وتُقدِّم لعائلتك ومجتمعِك، ربما لا تقدِّم مالًا أو هدايا أو نجاحاتٍ وشهرة، ولكنك تقدِّم غير ذلك أمورًا كثيرة! أنت تسعى في مضمار الحياة بجهدِك، لا يكون الجميع قادةً وعظماء في أعيُن المجتمع، ولكن في أعينِ الأقربين هم كثر! وما هذه الحياةُ الدنيا إلا مزرعةٌ للآخرة، ولا تتطلب الآخرة مالًا أو شهرةً أو جاهًا. لكن كن ساعيًا مجتهدًا باذلًا ما استطعت. كن عطوفا على نفسك، فالقسوة واللوم والعقاب لن تزيدك إنجازا أبدا، وإن دفعتك فهي الدفعة التي تلقتها سيارة متوقفة من سيارة مسرعة، نعم ستنطلق نتيجة الاصطدام لكنها ستتضرر، وتتوقف قريبا توقفا يصعب معه عودتها للسير بنفسها! وتذكر دائمًا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «أدْوَمُهَا وإنْ قَلَّ».

لن تجد إلا قلة استثنائية تسير سير القطار على السكة، أما الأغلب فهم طبيعيون سيارون بما يناسب ظروفهم.

من المفارقات العجيبة أنني بدأتُ كتابة المقال قبل ستّة أشهرٍ تقريبًا، ومر بمراحل فتورٍ وتسويفٍ وكسل وخمول كثيرة! يقال: بابُ النجّار مخلوع!

الهوامش

  1. صحيح البخاري (٦٤٦٤)

© ١٤٤٤ هـ

بُنِيَ بـ فضائيّ

رُمح مقدونيّ نمطٌ صمّمهٌ اوزچلك